إذاً: هناك ارتباط بين عمل القلب وعمل الجوارح، فالزاني حين يزني -والعياذ بالله- إنما يزني -كما يقول الشيخ رحمه الله- لحب نفسه لذلك الفعل، فالدافع له هو تحقيق رغبة نفسية شهوانية، فلو قام بقلبه خشية الله التي يقهر بها هذه الشهوة لم يفعل ما فعل، كما في قصة يوسف عليه السلام: ((
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ))[يوسف:24] ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: (فمن كان مخلصاً لله حق الإخلاص لم يزن، وإنما يزني لخلوه من ذلك) فالأعمال مرتبطة بحقيقة القلب. ثم يقول: (وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه) أي: إذا واقع الفاحشة -والعياذ بالله- ينزع منه الإيمان. ثم يقول: (لم ينزع منه نفس التصديق) أي: وليس الذي ينزع منه هو قول القلب، ولو كان قصد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) قول القلب لكان الزاني كافراً، لكن المقصود هو عمل القلب، فقول القلب متوفر لديه، وهو الإقرار، فلو لم يقر بقلبه لكفر، ولكن عمل القلب كخشية الله تبارك وتعالى والخوف من وعيده، والحذر واستعظام هذه الفاحشة، وما يشعر به كل مؤمن قد يضعف فيقع المؤمن في شيء من هذا، وقد قال تعالى: ((
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))[الأنعام:15] فهذا دائماً لابد أن يكون في ذهن المؤمن كلما دعي إلى معصية فليقل: ((
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ))[الأنعام:15] ولذلك لا يفعل المؤمن هذا، فإن فعل فهو في غفلة من عمل القلب، وكل من يعصي الله سبحانه وتعالى فإنما يعصي الله وهو جاهل، ويبين هذا قوله تعالى: ((
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ))[النساء:17] وليس المقصود أنه لا يعلم أنها حرام، بل كل من عصى الله فهو جاهل بالله، وجاهل بعظمة الله وبوعيده، وجاهل بحقه الله وقدره تبارك وتعالى، وليس هذا قيداً يعني: أن الله سبحان وتعالى إنما يتوب عن الجاهل وأما غيره فلا؛ لأن كل عاصٍ جاهل، والله تعالى يتوب على كل من تاب، وإن كان فعل ذلك عالماً عارفاً عامداً، ولكن من فعله متعمداً كان جاهلاً، فهذا الجهل هو أساس وقوع الناس في المعاصي وارتكابهم للمحرمات، ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى آية الأمانة قال: ((
إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ))[الأحزاب:72] وعلل ذلك بقوله: ((
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ))[الأحزاب:72] والظلم هو التعدي والتجاوز ووضع الشيء في غير موضعه، والجهل هو فقدان البصيرة في الأمر، وعاقبته، وكلاهما في الإنسان، فهو قد يضع الشيء في غير موضعه فيتجاوز حده، ويخرج عن طوره، ويتعدى حدود الله، ويقع فيما نهى الله عنه، فهو ظلوم جهول، لا بصيرة لديه بالعواقب إلا إذا حفظه الله وعصمه، ولذلك فإن الله تعالى قد جعل للعبد حداً معيناً لا يجوز له أن يطلق لنفسه عنان الطمع والحرص على الدنيا والشره بهذا المقدار؛ لأنه إذا أطلق لنفسه العنان فلن يقف عند حد، فلا بد أن تضع نفسك عند حد معين، واحرص على ما ينفعك، ولا تنس نصيبك من الدنيا على أحد القولين، لكن أن يصل بك الأمر إلى الشح والتقتير والحرص المضيع الذي يلهيك عن ذكر الله وإقام الصلاة فلا يجوز ذلك، حتى في الأمور الجسدية، فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل النوم إجبارياً لكان بعض الناس كالتجار مثلاً وأصحاب المناصب -كدليل على ظلم الإنسان وجهله- لن ينام أبداً، ولو قيل له: لو نمت لتقوى بدنك، وإن لم تنم ضعف وأنت بالخيار فإنه لا ينام، لكن الله تعالى من رحمته وحكمته وعلمه بهذا الظلوم الجهول لم يوكله إلى ظلمه وجهله، بل جعل له حدوداً معينة، فإذا أتعب وأجهد احتاج أن ينام، وحتى الشهوة الجنسية فيجب على الإنسان أن يعتدل فيها، ولو أن أحداً فرط في الحلال فلا بد أن يتعب، وهكذا الأكل قد جعل الله سبحانه وتعالى حدوداً لولا هذه الحدود في خلقة الإنسان وفي حياته لما وقف عند شيء، لأن الطمع لا حد له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (
لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ولهذا عندما رسم النبي صلى الله عليه وسلم مربعاً، وجعل خطاً خارجاً منه، وجعل سهاماً مثلها صلى الله عليه وسلم بقوله: (
هذا الإنسان وهذا أجله ) فالأجل هو المربع المحيط به، والخط النافذ هو أمله، والسهام هي العوارض، فالإنسان أمله بعيد، لكن الأجل يحول دون ذلك، ولا يوجد أحد مات وقد حقق كل آماله، ولذا تجد الشخص قبل أن يموت بيوم يتمنى أن لو كان صحيحاً ليفعل كذا وكذا، سواء من الطاعات أو من المحرمات، وقد يتمنى أن لو حج واعتمر وتصدق، فالأمل أبعد بكثير من الأجل، وفي دائرة الحياة قبل بلوغ الأجل تأتيه العوارض، فيوماً يمرض ويوماً يتعب ويوماً يصاب بغم وهكذا، فيا عجباً للإنسان حالته! ومع ذلك فهو يضيع كدحه ونصبه وعمله في غير طلب الراحة العظمى وراحة الأبد، وهي العمل لنيل الجنة عند الله تبارك وتعالى.